في جل مناطق
المعمورة الأرضية، يبدأ الموسم الدراسي عادة في فصل الخريف، وينتهي بنهاية
الربيع أو بدخول فصل الصيف، وهذا يعني أن معظم الوقت الذي يقضيه التلاميذ
في تحصيل دروسهم يكون خلال فصل الشتاء، الذي يتسم ببرودة الجو وهطول المطر
وغير ذلك من ظواهر الطقس المصاحبة..لقد اتفق جل الخبراء المعنيين بوضع خطط
وسياسات ونظم التعليم، على أن فترة الشتاء التي تمتد في نصف الكرة الشمالي
إلى نحو93يومًا وفي نصف الكرة الجنوبي إلى 89 يومًا، برغم ما فيها من
تقلبات مناخية تبدو مزعجة للكثيرين، هي الفترة الأنسب للدوام المدرسي، وأن
القدرة على اكتساب مهارات التعلم يمكن أن تزداد إذا توافرت الاحتياطات
المناسبة لمواجهة تداعيات الطقس البارد، وذلك قياسًا بفترة الصيف، وما
يصاحبها من ارتفاع في درجات الحرارة يؤثر على مستوى التحصيل الدراسي.
أشارت
دراسة حديثة صادرة عن البنك الدولي بعنوان �خفضوا الحرارة�، إلى أن منطقة
الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تقع في الخطوط الأمامية من المواجهة مع تغير
المناخ، وأن التركيز على فصل الشتاء كفترة رئيسة في الموسم الدراسي هو
الاتجاه الأمثل، خاصة بعد أن شهدت المنطقة ارتفاعًا في درجات الحرارة
ومعدلات الجفاف بشكل مطرد، وأن ثمة خمس دول عربية، من بين البلدان التسعة
عشرة التي سجلت ارتفاعات جديدة في درجات الحرارة منذ عام2010م، وهو العام
الذي شهد أعلى ارتفاع في درجات الحرارة عالميــًا منذ بدء تسجيلها في القرن
التاسع عشر، وأنه من المتوقع أن يتزايد الارتفاع، نتيجة حدوث الظواهر
المناخية المتطرفة، وأن التأثير الأكبر سوف ينعكس سلبًا على العملية
التعليمية، خاصة في المراحل الدراسية الأولى.. يقول سايمون ثاكر: برغم ما
قد يبدو من تداعيات شتوية مؤثــرة على انتظام التعليم في المنطقة العربية،
إلا أن هذه التداعيات أرحم بكثير من تلك التي يمكن أن تحدث خلال فترات الحر
الشديد، والتي ثبت من نتائج الدراسات والأبحاث أنها �تؤثر سلبًا على نتائج
التعليم، ليس فقط على المدى الطويل, بل أيضًا يمكن إدراكها على المدى
القصير، إذ إن ارتفاع درجات الحرارة يؤدي إلى تغيير النطاق الجغرافي
لناقلات الأمراض، ومن ثم تصبح الإصابة أعلى لثلاثة أمراض مختلفة، هي حمى
الوادي المتصدع والتهاب السحايا والإصابة بالبكتريا العصوية الناتجة عن
التسمم البحري.. بينما خلال فترة الشتاء، كما يقول كل من ويليام بانغاي
وكريبتي، فإن ألد أعداء التلاميذ يتمثـل في الإصابة بالرشح والإنفلونزا،
ويمكن التغلب عليها بوسائل متاحة، سوف نأتي على ذكرها لاحقًا، كما يتعين
أخذ التدابير الوقائية، عند انخفاض درجات الحرارة، إلى مستويات قد تتسبب
ليس في مشكلات صحية فقط، ولكن أيضًا وبحسب دراسة بريطانية صادرة عن
�الرابطة القومية لأساتذة المراحل المتقدمة من التعليم� تحدث مشكلات في
مستوى التحصيل الدراسي للطلاب، إمـا نتيجة الامتناع عن الحضور للمدرسة، أو
الحضور ولكن بإقبال فاتر على التعليم.
الـتـعـلـيـم في الــريـف..الأكـثـر تضررًا
وكانت
أكثر من دراسة أكاديمية قد أفضت نتائجها إلى أن تداعيات تقلبات الطقس في
فصل الشتاء على تلاميذ المدارس أقل حدة في المدن والمناطق الحضرية، إذ
تتوافر الإمكانات والوسائل التي يمكن من خلالها تجنب هذه التداعيات، ولكن
في المناطق الريفية والنائية، فإن كثيرًا من تلاميذ المدارس، يعانون بشكل
حقيقي من تقلبات فصل الشتاء، إذ إن موجات البرد الشديدة، وما قد يصاحبها من
أمطار غزيرة، لا يزيد من المخاطر الصحية وكفى، بل يمنع التلاميذ من الذهاب
إلى مدارسهم، ومن ثم التـأثير سلبًا على المسيرة الدراسية لدى هؤلاء
التلاميذ.
وكانت دراسة مغربية، تتعلق برصد الحالة
التعليمية خلال فصل الشتاء بالمدارس الكائنة في الضواحي النائية لإقليم
أزيلال، قد أشارت إلى أن جل فصول الدراسة، تبدو خالية في بداية اليوم
الدراسي لصعوبة وصول التلاميذ إليها، حتى من يصلون متأخرين فإنهم يستيقظون
باكرًا، ويمشون مسافات طويلة بين فج وواد، بين أكمة وتلال، ويصارعون فيها
تيارات الهواء الباردة، ويواجهون نسائم البرد التي تشقق جلودهم ووجوههم
البريئة، ويزداد الأمر سوءًا في كثير من المدارس التي لا تتوافر فيها
الخدمات على نحو جيد، إذ تفتقر فصول الدراسة إلى زجاج النوافذ والأبواب
والأسوار، مما يجعل هذه الفصول وكأنها مصائد متأهبة لافتراس التلاميذ
بالرشح والإنفلونزا, ناهيك عن قيام التلاميذ طوال فترة مكوثهم فيها، بالنفخ
في أيديهم، علهم يشعرون بقليل من الدفء الذي حرمتهم منه هذه الفصول
المهملة والبعيدة عن أعين المسؤولين!!..
وكثير من
الدراسات صنفت هذا الإهمال الذي تتضاعف تداعياته خلال أيام الشتاء ذات
البرودة الشديدة، كسبب رئيس في التسرب المدرسي، وعزوف كثير من الأطفال عن
الذهاب إلى المدرسة بالمناطق النائية في جل بلدان العالم الثالث.
التعليم..جزء مــن الحل
إن
المشكلات التعليمية التي قد تنشأ نتيجة تقلبات الطقس الشتوي، والتي يكون
الخاسر الأكبر فيها هو التلميذ، يمكن العمل على تقليلها بالمزيد من
التوعية، وجعل المناهج الدراسية أكثر مقاربة من هذه المشكلات، وذلك من خلال
التعريف بها، وبأبعادها، وسبل مواجهتها على نحو جيد. وكانت دراسة البنك
الدولي، المشار إليها سلفــًا، قد أفضت إلى �أنه في الوقت الذي يتم بناء
قدرة أنظمة التعليم، على مجابهة الآثار الناشئة عن تغير المناخ، سيكون من
المهم التركيز على الدور الذي يلعبه التعليم نفسه، في التكيف مع متغيرات
المناخ�، وكانت المادة السادسة من اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن
المناخ، والتي يطلق عليها �برنامج عمل نيودلهي�، قد نصت على أن التعليم
والتدريب والوعي العام، جزء لا يتجزأ من الاستجابة لمواجهة تقلبات المناخ،
وإذا كانت المناهج الدراسية في جل دول العالم، تقدم دروسًا في هذا الشأن،
فإن ثمة اتجاهات تذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، مستهدفة تحقيق نتائج أكثر
إيجابية، منها الاتجاه الذي يرى بضرورة إدراج وحدات تعليمية تتعلق بدراسة
الفصول الأربعة والظواهر المصاحبة لها، وكيفية التعامل معها على نحو صحيح،
وألا تكون هذه الوحدات مقتصرة على مادة العلوم فقط، وإنما في المواد
الدراسية الأخرى أيضًا. وكانت أستراليا قد أطلقت أولى المبادرات البارزة
لتعميق هذا الاتجاه في مناهجها الدراسية بمراحل التعليم الأساسي، وبحسب
تقارير المتابعة، فقد تحقق بالفعل نتائج ملموسة، انعكست على التلاميذ، حيث
صاروا أكثر تفاهمًا وتعايشًا مع بيئتهم، وما يسود فيها من تقلبات في
الأحوال الجوية، وكان من بين الوحدات التعليمية التي أدرجت في المنهج
الدراسي لتلاميذ المرحلتين الابتدائية والإعدادية وحدة تختص بفصل الشتاء،
استهدفت:
- تعريف التلميذ بالظواهر الطبيعية المتعلقة بفصل الشتاء (المطر ــ الثلج ــ الرياح ــ البرق ــ الرعد ــ الضباب ــ قوس قزح).
- أن يميز التلميذ بين هذه الظواهر.
- التعريف بلوازم فصل الشتاء، التي يمكن من خلالها مواجهة التقلبات الحادة في برودة الجو.
- إثراء لغة التلميذ بمصطلحات تتعلق بفصل الشتاء.
- التعريف ببعض الكائنات الحية وكيفية تعاملها مع تداعيات الطقس الشتوي.
- التعريف بالانقلاب الشتوي كظاهرة فلكية.
وكانت
إحدى الدراسات حول (أهمية إدماج البعد المناخي في المناهج الدراسية)، قد
أشارت إلى أن جميع المواد الدراسية، يمكن أن يدمج فيها البعد المناخي، بحيث
تترك أثرًا جيدًا في سلوكيات التلاميذ..ففي الرياضيات مثلاً، يمكن أن يطلب
من التلاميذ إلقاء نظرة على صفحة الطقس في الصحف المحلية للعثور على أوقات
شروق الشمس وغروبها على مدار أسبوع أو أسبوعين، ومن ثم يطلب منهم إنشاء
رسم بياني يوضح ذلك، بينما يطلب من التلاميذ الأصغر سنًا حساب مجموع ساعات
ضوء الشمس كل يوم (بداية الشروق ونهاية الغروب).. وفي الجغرافيا، يمكن عمل
خريطة لحالة الطقس في المناطق الإدارية للدولة أو في عموم الإقليم المحيط
بها، وكذا دراسة خطوط العرض وأهميتها في تحديد نطاقات الطقس والمناخ..
ويمكن اعتماد دروس في القراءة، والمحفوظات وإنشاء قطع إملائية ومواضيع
تعبيرية تستهدف تزويد الطالب بقائمة من الكلمات ذات الصلة بحالة الطقس
ومتغيرات المناخ، مثل الانقلاب الشتوي وخط الاستواء والإقليم المداري
والضوء الطبيعي والغمامة ونحو ذلك، وفي النشاط المصاحب يمكن إنشاء قاموس
مصغر لمثل هذه الكلمات أو بالأحرى المصطلحات، وتعريف كل منها لغويًا
وعلميًا.. وفي مادة العلوم، يمكن التوسع في التجارب التي تزيد مدارك
التلاميذ عن بيئتهم ومظاهر الحالة الجوية السائدة، وكذا ما قد يطرأ عليها
من متغيرات، ومن أمثلة هذه التجارب:�تجربة البارومتر� و�تجربة الضغط الجوي�
و�تجربة التبخر� و�تجربة تكون الثلوج�، ونحو ذلك من التجارب ذات
الصلة..وفي مادة الرسم، يمكن تكليف التلاميذ بعمل موضوعات متنوعة،
لمشاهداتهم خلال فصل الشتاء وهكذا.
وللشتاء في مدارسنا حكايا مختلفة فأصبح تعليق الدراسة وتعطيلها هو بطل الشتاء المدرسي عندنا .
لابد
من فلسفة تعليمية تمنح الدفء للجو المدرسي وتجعل الطالب والمعلم يتكييف مع
المتغيرات المناخية حوله ،سواء كان في مبنى حكومي أو مستأجر والعمل على
إيجاد بنية تحتية قادرة على تحمل المناهج الصعبة للمناخ صيفاً وشتاء.
الوصايا العشر
وللحد
من آثار وتداعيات تقلبات الطقس في فصل الشتاء على تلاميذ المدارس، والعمل
على انتظام العملية التعليمية، فإن ثمة خريطة طريق يمكن أن يعول عليها في
ذلك، وهي تتضمن خلاصة تجارب وأبحاث علمية رصينة، نضعها في إطار وصايـا عشر،
على النحو التالي:
ــ أولاً: عند تصميم المباني المدرسية،
يجب أخذ البعد البيئي والحالة المناخية السائدة في الاعتبار.. خاصة فيما
يتعلق بعوازل الرطوبة في الأرضيات والجدران، واتجاه النوافذ بالنسبة لحركة
الرياح بحيث لا تسمح بتيارات هواء قد تؤثــر على صحة التلاميذ.
ــ
ثانيًا: العناية بالطرق المؤدية إلى المدارس، بحيث تكون ممهدة على نحو
جيد، ولا تتجمع فيها مياه المطر أو الأوحال التي قد تعيق التلاميذ في
ذهابهم وإيابهم، مع توفير المواصلات المريحة لتنقلاتهم.
ــ
ثالثًا: أن يحرص التلاميذ على ارتداء الملابس الثقيلة التي تقيهم هجمات
البرد، خاصة في الأيام التي تتدنى فيها درجات الحرارة، ويشتد البرد القارس،
كما يجب أن تمتد العناية إلى أحذيتهم، كونها خط الدفاع الأول ضد الرطوبة
التي مصدرها الأرض، ويفضل أن تكون جلدية ومتينة وحامية لكامل القدمين.
ــ
رابعًا: استخدام الوسائط الإعلامية المختلفة لتوعية المواطنين وأولياء
أمور التلاميذ بالظواهر الجوية وحالة الطقس المتوقعة، من خلال عمليات الرصد
بالأقمار الاصطناعية وغيرها من وسائل الرصد الأخرى، وتقديم النصائح من قبل
المتخصصين حول سبل حماية أولياء الأمور لأبنائهم من سوء الحالة الجوية،
سواء عند عودتهم إلى المنزل، أو عند خروجهم إلى الدوام المدرسي.
ــ
خامسًا: تنظيم دورات تدريبية للمعلمين والمشرفين، لكيفية التعامل السليم
مع التلاميذ خلال الفترات التي تسوء فيها حالة الجو.. وهذه النقطة غاية في
الأهمية، خاصة للمعلمين والمشرفين في المراحل الأولى من التعليم الأساسي،
إذ إن إغفالها قد يتسبب في عواقب كارثية.
ــ سادسًا: تنشيط
دور الإدارات الصحية في الحماية الاستباقية للتلاميذ من المخاطر الصحية
التي قد يتعرضون لها خلال فصل الشتاء، وإعطاء التطعيمات والتحصينات ضد
الأمراض المصاحبة لهذا الفصل، وبخاصـة الإنفلونزا ونزلات الـبـرد، التي
تهاجم التلاميذ عـادة عندمـا تنتشـر تيارات الهواء البـارد، وتتدنى درجات
الحرارة.. مع ضرورة وجود طبيب مقيم في كل مدرسة.
ــ
سابعًا: ضرورة إنشاء صندوق إعانة للتلاميذ ذوي الاحتياجات المادية في عموم
المدارس والإدارات التعليمية، مع التركيز على المناطق الريفية والنائية،
فهي الأكثر احتياجًا لإنشاء مثل هذا الصندوق وتفعيل نشاطه، ومنه يمكن الصرف
على توفير الكساء الشتوي، لغير القادرين.
ــ ثامنـًا: وضع
خطة تتسم بالمرونة، فيما يتعلق بتمديد بداية ونهاية الموسم الدراسي، وما
يتخلله من إجازات، وكذا فترة الدوام اليومي، بحيث تتناسب مع ظروف كل منطقة
محلية.. ويكون هذا ضروريًا في الدول الكبيرة، الممتدة على مساحات مليونية،
حيث تتباين حالة الطقس من منطقة لأخرى.
ــ تاسعـًا:
التواصل الدائم بين غرفة عمليات مركزية في الوزارة، وغرف العمليات الفرعية
في المديريات والإدارات التعليمية، من أجل استكمال الاستعدادات اللازمة
لاستقبال فصل الشتاء، واتخاذ الاحتياطات اللازمة لتوفير البيئة المدرسية
المناسبة، والتدخل السريع في حالة الأزمات التي قد تطرأ نتيجة سوء الأحوال
الجوية.
ــ عاشرًا: الاهتمام بوضع نظام غذائي جيد للتلاميذ
يستهدف تقوية مناعتهم، مع ضرورة مزاولة تمارين رياضية صباحية لزيادة
نشاطهم والحفاظ على قوامهم البدني..وبث الدفء في نفوسهم وتقوية عزيمتهم على
مواجهة عوارض البرد، وجعلهم أكثر إقبالاً على دروسهم.
بقلم : حسني عبد الحافظ